الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)
.فَصْلٌ: [دَرَجَاتُ الرَّجَاءِ]: .[الدَّرَجَةُ الْأُولَى: رَجَاءٌ يَبْعَثُ الْعَامِلَ عَلَى الِاجْتِهَادِ]: الرَّجَاءُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الرَّجَاءِ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: رَجَاءٌ يَبْعَثُ الْعَامِلَ عَلَى الِاجْتِهَادِ. وَيُوَلِّدُ التَّلَذُّذَ بِالْخِدْمَةِ، وَيُوقِظُ الطِّبَاعَ لِلسَّمَاحَةِ بِتَرْكِ الْمَنَاهِي. أَيْ يُنَشِّطُهُ لِبَذْلِ جُهْدِهِ لِمَا يَرْجُوهُ مِنْ ثَوَابِ رَبِّهِ. فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ قَدْرَ مَطْلُوبِهِ هَانَ عَلَيْهِ مَا يَبْذُلُ فِيهِ. وَأَمَّا تَوْلِيدُهُ لِلتَّلَذُّذِ بِالْخِدْمَةِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا طَالَعَ قَلْبُهُ ثَمَرَتَهَا وَحُسْنَ عَاقِبَتِهَا الْتَذَّ بِهَا. وَهَذَا كَحَالِ مَنْ يَرْجُو الْأَرْبَاحَ الْعَظِيمَةَ فِي سَفَرِهِ، وَيُقَاسِي مَشَاقَّ السَّفَرِ لِأَجْلِهَا. فَكُلَّمَا صَوَّرَهَا لِقَلْبِهِ هَانَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْمَشَاقُّ وَالْتَذَّ بِهَا. وَكَذَلِكَ الْمُحِبُّ الصَّادِقُ السَّاعِي فِي مَرَاضِي مَحْبُوبِهِ الشَّاقَّةِ عَلَيْهِ، كُلَّمَا تَأَمَّلَ ثَمَرَةَ رِضَاهُ عَنْهُ وَقَبُولِهِ سَعْيَهُ، وَقُرْبِهِ مِنْهُ تَلَذَّذَ بِتِلْكَ الْمَسَاعِي، وَكُلَّمَا قَوِيَ عِلْمُ الْعَبْدِ بِإِفْضَاءِ ذَلِكَ السَّبَبِ إِلَى الْمُسَبِّبِ الْمَطْلُوبِ، وَقَوِيَ عِلْمُهُ بِقَدْرِ الْمُسَبِّبِ وَقُرْبِ السَّبَبِ مِنْهُ ازْدَادَ الْتِذَاذًا بِتَعَاطِيهِ. وَأَمَّا إِيقَاظُ الطِّبَاعِ لِلسَّمَاحَةِ بِتَرْكِ الْمَنَاهِي: فَإِنَّ الطِّبَاعَ لَهَا مَعْلُومٌ وَرُسُومٌ تَتَقَاضَاهَا مِنَ الْعَبْدِ. وَلَا تَسْمَحُ لَهُ بِتَرْكِهَا إِلَّا بِعِوَضٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهَا مِنْ مَعْلُومِهَا وَرُسُومِهَا، وَأَجَلُّ عِنْدِهَا مِنْهُ وَأَنْفَعُ لَهَا. فَإِذَا قَوِيَ تَعَلُّقُ الرَّجَاءِ بِهَذَا الْعِوَضِ الْأَفْضَلِ الْأَشْرَفِ سَمَحَتِ الطِّبَاعُ بِتَرْكِ تِلْكَ الرُّسُومِ وَذَلِكَ الْمَعْلُومِ. فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَتْرُكُ مَحْبُوبًا إِلَّا لِمَحْبُوبٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهَا مِنْهُ. أَوْ حَذَرًا مِنْ مُخَوِّفٍ هُوَ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً لَهَا مِنْ حُصُولِ مَصْلَحَتِهَا بِذَلِكَ الْمَحْبُوبِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ فَفِرَارُهَا مِنْ ذَلِكَ الْمُخَوِّفِ إِيثَارٌ لِضِدِّهِ الْمَحْبُوبِ لَهَا. فَمَا تَرَكَتْ مَحْبُوبًا إِلَّا لِمَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهَا مِنْهُ. فَإِنَّ مَنْ قُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ لَذِيذٌ يَضُرُّهُ وَيُوجِبُ لَهُ السَّقَمَ. فَإِنَّمَا يَتْرُكُهُ مَحَبَّةً لِلْعَافِيَةِ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ. .[الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: رَجَاءُ أَرْبَابِ الرِّيَاضَاتِ أَنْ يَبْلُغُوا مَوْقِفًا تَصْفُو فِيهِ هِمَمُهُمْ]: أَرْبَابُ الرِّيَاضَاتِ: هُمُ الْمُجَاهِدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَرْكِ مَأْلُوفَاتِهَا، وَالِاسْتِبْدَالِ بِهَا مَأْلُوفَاتٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْهَا وَأَكْمَلُ، فَرَجَاؤُهُمْ أَنْ يَبْلُغُوا مَقْصُودَهُمْ بِصَفَاءِ الْوَقْتِ، وَالْهِمَّةِ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالْمَلْذُوذَاتِ. وَتَجْرِيدِ الْهَمِّ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا. وَبِلُزُومِ شُرُوطِ الْعِلْمِ. وَهُوَ الْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ. فَإِنَّ رَجَاءَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِحُصُولِ ذَلِكَ لَهُمْ، وَاسْتِقْصَاءِ حُدُودِ الْحَمِيَّةِ. وَالْحَمِيَّةُ الْعِصْمَةُ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ تَنَاوُلِ مَا يُخْشَى ضَرَرُهُ آجِلًا أَوْ عَاجِلًا. وَلَهُ حُدُودٌ مَتَى خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْهَا انْتَقَضَ عَلَيْهِ مَطْلُوبُهُ، وَالْوُقُوفُ عَلَى حُدُودِهَا بِلُزُومِ شُرُوطِ الْعِلْمِ. وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي تِلْكَ الْحُدُودِ بِأَمْرَيْنِ: بَذْلِ الْجُهْدِ فِي مَعْرِفَتِهَا عِلْمًا، وَأَخْذِ النَّفْسِ بِالْوُقُوفِ عِنْدَهَا طَلَبًا وَقَصْدًا. .[الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: رَجَاءُ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ]: هَذَا الرَّجَاءُ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الرَّجَاءِ وَأَعْلَاهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ}. وَهَذَا الرَّجَاءُ هُوَ مَحْضُ الْإِيمَانِ وَزُبْدَتُهُ، وَإِلَيْهِ شَخَصَتْ أَبْصَارُ الْمُشْتَاقِينَ. وَلِذَلِكَ سَلَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِتْيَانِ أَجَلِ لِقَائِهِ. وَضَرَبَ لَهُمْ أَجَلًا يُسَكِّنُ نُفُوسَهُمْ وَيُطَمْئِنُهَا. وَالِاشْتِيَاقُ هُوَ سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ مَحْبُوبِهِ. وَاخْتَلَفَ الْمُحِبُّونَ: هَلْ يَبْقَى عِنْدَ لِقَاءِ الْمَحْبُوبِ أَمْ يَزُولُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَزُولُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْغَيْبَةِ. وَهُوَ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَى الْمَحْبُوبِ. فَإِذَا انْتَهَى السَّفَرُ، وَاجْتَمَعَ بِمَحْبُوبِهِ، وَضَعَ عَصَا الِاشْتِيَاقِ عَنْ عَاتِقِهِ. وَصَارَ الِاشْتِيَاقُ أُنْسًا بِهِ وَلَذَّةً بِقُرْبِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يَزِيدُ وَلَا يَزُولُ بِاللِّقَاءِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْحُبَّ يَقْوَى بِمُشَاهَدَةِ جَمَالِ الْمَحْبُوبِ أَضْعَافَ مَا كَانَ حَالَ غَيْبَتِهِ. وَإِنَّمَا يُوَارِي سُلْطَانُهُ فَنَاءَهُ وَدَهْشَتَهُ بِمُعَايَنَةِ مَحْبُوبِهِ، حَتَّى إِذَا تَوَارَى عَنْهُ ظَهَرَ سُلْطَانُ شَوْقِهِ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قِيلَ: وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَقْصَاةً وَتَوَابِعَهَا فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ فِي الْمَحَبَّةِ. وَفِي كِتَابِ سَفَرُ الْهِجْرَتَيْنِ. وَسَنَعُودُ إِلَيْهَا إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى مَنْزِلَتِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ الْمُنَغِّصُ لِلْعَيْشِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ عَيْشَ الْمُشْتَاقِ مُنَغَّصٌ حَتَّى يَلْقَى مَحْبُوبَهُ. فَهُنَاكَ تَقَرُّ عَيْنُهُ. وَيَزُولُ عَنْ عَيْشِهِ تَنْغِيصُهُ. وَكَذَلِكَ يَزْهَدُ فِي الْخَلْقِ غَايَةَ التَّزْهِيدِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ طَالِبٌ لِلْأُنْسِ بِاللَّهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ. فَهُوَ أَزْهَدُ شَيْءٍ فِي الْخَلْقِ، إِلَّا مَنْ أَعَانَهُ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ مِنْهُمْ وَأَوْصَلَهُ إِلَيْهِ. فَهُوَ أَحَبُّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ. وَلَا يَأْنَسُ مِنَ الْخَلْقِ بِغَيْرِهِ. وَلَا يَسْكُنُ إِلَى سِوَاهُ. فَعَلَيْكَ بِطَلَبِ هَذَا الرَّفِيقِ جُهْدَكَ. فَإِنْ لَمْ تَظْفَرْ بِهِ فَاتَّخِذِ اللَّهَ صَاحِبًا. وَدَعِ النَّاسَ كُلَّهُمْ جَانِبًا. .فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الرَّغْبَةِ: .[الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّغْبَةِ وَالرَّجَاءِ]: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّغْبَةِ وَالرَّجَاءِ أَنَّ الرَّجَاءَ طَمَعٌ. وَالرَّغْبَةُ طَلَبٌ. فَهِيَ ثَمَرَةُ الرَّجَاءِ. فَإِنَّهُ إِذَا رَجَا الشَّيْءَ طَلَبَهُ. وَالرَّغْبَةُ مِنَ الرَّجَاءِ كَالْهَرَبِ مِنَ الْخَوْفِ. فَمَنْ رَجَا شَيْئًا طَلَبَهُ وَرَغِبَ فِيهِ. وَمَنْ خَافَ شَيْئًا هَرَبَ مِنْهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرَّاجِيَ طَالِبٌ، وَالْخَائِفَ هَارِبٌ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الرَّغْبَةُ هِيَ مِنَ الرَّجَاءِ بِالْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الرَّجَاءَ طَمَعٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَحْقِيقٍ وَالرَّغْبَةُ سُلُوكٌ عَلَى التَّحْقِيقِ. أَيِ الرَّغْبَةُ تَتَوَلَّدُ مِنَ الرَّجَاءِ. لَكِنَّهُ طَمَعٌ. وَهِيَ سُلُوكٌ وَطَلَبٌ. وَقَوْلُهُ: الرَّجَاءُ طَمَعٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَحْقِيقِ أَيْ طَمَعٌ فِي مَغِيبٍ عَنْهُ مَشْكُوكٍ فِي حُصُولِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَحَقِّقًا فِي نَفْسِهِ، كَرَجَاءِ الْعَبْدِ دُخُولَ الْجَنَّةِ. فَإِنَّ الْجَنَّةَ مُتَحَقِّقَةٌ لَا شَكَّ فِيهَا. وَإِنَّمَا الشَّكُّ فِي دُخُولِهِ إِلَيْهَا. وَهَلْ يُوَافِي رَبَّهُ بِعَمَلٍ يَمْنَعُهُ مِنْهَا أَمْ لَا؟ بِخِلَافِ الرَّغْبَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِ مَا يَرْغَبُ فِيهِ. فَالْإِيمَانُ فِي الرَّغْبَةِ أَقْوَى مِنْهُ فِي الرَّجَاءِ. فَلِذَلِكَ قَالَ: وَالرَّغْبَةُ سُلُوكٌ عَلَى التَّحْقِيقِ. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّ الرَّغْبَةَ أَيْضًا طَلَبُ مَغِيبٍ، هُوَ عَلَى شَكٍّ مِنْ حُصُولِهِ. فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرْغَبُ فِي الْجَنَّةِ وَلَيْسَ بِجَازِمٍ بِدُخُولِهَا. فَالْفَرْقُ الصَّحِيحُ أَنَّ الرَّجَاءَ طَمَعٌ وَالرَّغْبَةُ طَلَبٌ. فَإِذَا قَوِيَ الطَّمَعُ صَارَ طَلَبًا. .[دَرَجَاتُ الرَّغْبَةِ]: .[الدَّرَجَةُ الْأُولَى رَغْبَةُ أَهْلِ الْخَبَرِ]: أَرَادَ بِالْخَبَرِ هَاهُنَا الْإِيمَانَ الصَّادِرَ عَنِ الْأَخْبَارِ. وَلِهَذَا جَعَلَ تَوَلُّدَهَا مِنَ الْعِلْمِ. وَلَكِنَّ هَذَا الْإِيمَانَ مُتَّصِلٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْسَانِ مِنْهُ، يُشْرِفُ عَلَيْهِ، وَيَصِلُ إِلَيْهِ. وَلِهَذَا قَالَ: الْمَنُوطُ بِالْمَشْهُودِ. أَيِ الْمُقْتَرِنُ بِالشُّهُودِ. وَذَلِكَ الشُّهُودُ: هُوَ مَشْهَدُ مَقَامِ الْإِحْسَانِ. وَهُوَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ. وَلَا مَشْهَدَ لِلْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا أَعْلَى مِنْ هَذَا. وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ فَوْقَهُ مَشْهَدًا أَعْلَى مِنْهُ. وَهُوَ شُهُودُ الْحَقِّ مَعَ غَيْبَتِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَهُوَ مَقَامُ الْفَنَاءِ. وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ. وَلَوْ كَانَ فَوْقَ مَقَامِ الْإِحْسَانِ مَقَامٌ آخَرُ لَذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ. وَلَسَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنْهُ. فَإِنَّهُ جَمَعَ مَقَامَاتِ الدِّينِ كُلَّهَا فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ. نَعَمْ الْفَنَاءُ الْمَحْمُودُ هُوَ تَحْقِيقُ مَقَامِ الْإِحْسَانِ. وَهُوَ أَنْ يَفْنَى بِحُبِّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَعِبَادَتِهِ، وَالتَّبَتُّلِ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ. وَلَيْسَ فَوْقَ ذَلِكَ مَقَامٌ يُطْلَبُ إِلَّا مَا هُوَ مِنْ عَوَارِضَ الطَّرِيقِ. قَوْلُهُ: وَتَصُونُ السَّالِكَ عَنْ وَهَنِ الْفَتْرَةِ؛ أَيْ تَحَفَظُهُ عَنْ وَهَنِ فُتُورِهِ وَكَسَلِهِ، الَّذِي سَبَّبَهُ عَدَمُ الرَّغْبَةِ أَوْ قِلَّتُهَا. وَقَوْلُهُ: وَتَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى غَثَاثَةِ الرُّخَصِ. أَهْلُ الْعَزَائِمِ بِنَاءُ أَمْرِهِمْ عَلَى الْجِدِّ وَالصِّدْقِ. فَالسُّكُونُ مِنْهُمْ إِلَى الرُّخَصِ رُجُوعٌ وَبَطَالَةٌ. وَهَذَا مَوْضِعٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ. لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ. فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِعَزَائِمِهِ. وَفِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ». فَجَعَلَ الْأَخْذَ بِالرُّخَصِ قُبَالَةَ إِتْيَانِ الْمَعَاصِي. وَجَعَلَ حَظَّ هَذَا: الْمَحَبَّةَ. وَحَظَّ هَذَا: الْكَرَاهِيَةَ. وَمَا عُرِضَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَانِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا وَالرُّخْصَةُ أَيْسَرُ مِنَ الْعَزِيمَةِ. وَهَكَذَا كَانَ حَالُهُ فِي فِطْرِهِ وَسَفَرِهِ، وَجَمْعِهِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَالِاقْتِصَارِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَنَقُولُ: الرُّخْصَةُ نَوْعَانِ أَنْوَاعُ الرُّخْصَةِ: أَحَدُهُمَا: الرُّخْصَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ الْمَعْلُومَةُ مِنَ الشَّرْعِ نَصًّا، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ قِيلَ لَهَا عَزِيمَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَمْرِ وَالْوُجُوبِ. فَهِيَ رُخْصَةٌ بِاعْتِبَارِ الْإِذْنِ وَالتَّوْسِعَةِ. وَكَفِطْرِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَقَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، وَصَلَاةِ الْمَرِيضِ إِذَا شَقَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ قَاعِدًا، وَفِطْرِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ خَوْفًا عَلَى وَلَدَيْهِمَا، وَنِكَاحِ الْأَمَةِ خَوْفًا مِنَ الْعَنَتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَلَيْسَ فِي تَعَاطِي هَذِهِ الرُّخَصِ مَا يُوهِنُ رَغْبَتَهُ. وَلَا يَرُدُّ إِلَى غَثَاثَةٍ. وَلَا يُنْقِصُ طَلَبَهُ وَإِرَادَتَهُ أَلْبَتَّةَ. فَإِنَّ مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَمِنْهَا مَا هُوَ رَاجِحُ الْمَصْلَحَةِ، كَفِطْرِ الصَّائِمِ الْمَرِيضِ، وَقَصْرِ الْمُسَافِرِ وَفِطْرِهِ. وَمِنْهَا مَا مَصْلَحَتُهُ لِلْمُتَرَخِّصِ وَغَيْرِهِ. فَفِيهِ مَصْلَحَتَانِ قَاصِرَةٌ وَمُتَعَدِّيَةٌ. كَفِطْرِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ. فَفِعْلُ هَذِهِ الرُّخَصِ أَرْجَحُ وَأَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهَا. النَّوْعُ الثَّانِي: رُخَصُ التَّأْوِيلَاتِ، وَاخْتِلَافُ الْمَذَاهِبِ. فَهَذِهِ تَتَبُّعُهَا حَرَامٌ يُنْقِصُ الرَّغْبَةَ، وَيُوهِنُ الطَّلَبَ، وَيَرْجِعُ بِالْمُتَرَخِّصِ إِلَى غَثَاثَةِ الرُّخَصِ. فَإِنَّ مَنْ تَرَخَّصَ بِقَوْلِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الصَّرْفِ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ فِي الْأَشْرِبَةِ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَأَصْحَابِ الْحِيَلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُتْعَةِ، وَإِبَاحَةِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَقَوْلِ مَنْ جَوَّزَ نِكَاحَ الْبَغَايَا الْمَعْرُوفَاتِ بِالْبِغَاءِ، وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ زَوْجَ قَحْبَةٍ، وَقَوْلِ مَنْ أَبَاحَ آلَاتِ اللَّهْوِ وَالْمَعَازِفِ مِنَ الْيَرَاعِ وَالطُّنْبُورِ، وَالْعُودِ وَالطَّبْلِ وَالْمِزْمَارِ، وَقَوْلِ مَنْ أَبَاحَ الْغِنَاءَ، وَقَوْلِ مَنْ جَوَّزَ اسْتِعَارَةَ الْجَوَارِي الْحِسَانِ لِلْوَطْءِ، وَقَوْلِ مَنْ جَوَّزَ لِلصَّائِمِ أَكَلَ الْبَرَدِ. وَقَالَ: لَيْسَ بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ، وَقَوْلِ مَنْ جَوَّزَ الْأَكْلَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ لِلصَّائِمِ، وَقَوْلِ مَنْ صَحَّحَ الصَّلَاةَ بِمُدْهَامَّتَانِ بِالْفَارِسِيَّةِ. وَرَكَعَ كَلَحْظَةِ الطَّرْفِ، ثُمَّ هَوَى مِنْ غَيْرِ اعْتِدَالٍ. وَفَصَلَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ كَحَدِّ السَّيْفِ. وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجَ مِنَ الصَّلَاةِ بِحَبْقَةٍ. وَقَوْلِ مَنْ جَوَّزَ وَطْءَ النِّسَاءِ فِي أَعْجَازِهِنَّ، وَنِكَاحَ بِنْتِهِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ مَائِهِ، الْخَارِجَةِ مِنْ صُلْبِهِ حَقِيقَةً، إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْحَمْلُ مِنْ زِنًى، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ. فَهَذَا الَّذِي تَنْقُصُ بِتَرَخُّصِهِ رَغْبَتُهُ، وَيُوهِنُ طَلَبُهُ. وَيُلْقِيهِ فِي غَثَاثَةِ الرُّخَصِ. فَهَذَا لَوْنٌ وَالْأَوَّلُ لَوْنٌ. .[الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ رَغْبَةُ أَرْبَابِ الْحَالِ]: يَعْنِي أَنَّ الرَّغْبَةَ الْحَاصِلَةَ لِأَرْبَابِ الْحَالِ فَوْقَ رَغْبَةِ أَصْحَابِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَالِ كَالْمُضْطَرِّ إِلَى رَغْبَتِهِ وَإِرَادَتِهِ. فَهُوَ كَالْفَرَاشِ الَّذِي إِذَا رَأَى النُّورَ أَلْقَى نَفْسَهُ فِيهِ. وَلَا يُبَالِي مَا أَصَابَهُ. فَرَغْبَتُهُ لَا تَدَعُ مِنْ مَجْهُودِهِ مَقْدُورًا لَهُ إِلَّا بَذَلَهُ. وَلَا تَدَعُ لِهِمَّتِهِ وَعَزِيمَتِهِ فَتْرَةً وَلَا خُمُودًا، وَعَزِيمَتُهُ فِي مَزِيدٍ بِعَدَدِ الْأَنْفَاسِ. وَلَا تَتْرُكُ فِي قَلْبِهِ نَصِيبًا لِغَيْرِ مَقْصُودِهِ، وَذَلِكَ لِغَلَبَةِ سُلْطَانِ الْحَالِ. وَصَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ لَا يُقَاوِمُهُ إِلَّا حَالٌ مِثْلُ حَالِهِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ. وَمَتَى لَمْ يُصَادِفْهُ حَالٌ تُعَارِضُهُ فَلَهُ مِنَ النُّفُوذِ وَالتَّأْثِيرِ بِحَسَبِ حَالِهِ. .[الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: رَغْبَةُ أَهْلِ الشُّهُودِ]: يُشِيرُ الشَّيْخُ بِذَلِكَ إِلَى حَالَةِ الْفَنَاءِ الَّتِي يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا هِمَّةٌ نَقِيَّةٌ مِنْ أَدْنَاسِ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا سِوَى الْحَقِّ. بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مَعَهُ بَقِيَّةٌ مِنْ تَفْرِقَةٍ. بَلْ قَدِ اجْتَمَعَ شَاهِدُهُ كُلُّهُ وَانْحَصَرَ فِي مَشْهُودِهِ. وَأَرَادَ بِالشُّهُودِ هَاهُنَا شُهُودَ الْحَقِيقَةِ. وَقَوْلُهُ: تَشَرُّفٌ؛ أَيِ اسْتَشْرَفَ الْغَيْبَةَ فِي الْفَنَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَشَرُّفًا عَنِ الْتِفَاتِهِ إِلَى مَا سِوَى مَشْهُودِهِ. وَالتَّقِيَّةُ الَّتِي تَصْحَبُ هَذَا التَّشَرُّفَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا التَّقِيَّةَ مِنْ إِظْهَارِ النَّاسِ عَلَى حَالِهِ، وَإِطْلَاعِهِمْ عَلَيْهَا، صِيَانَةً لَهَا وَغَيْرَةً عَلَيْهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا الْحَذَرَ مِنَ الْتِفَاتِهِ فِي شُهُودِهِ إِلَى مَا سِوَى حَضْرَةِ مَشْهُودِهِ. فَهِيَ تَتَّقِي ذَلِكَ الِالْتِفَاتَ وَتَحْذَرُهُ كُلَّ الْحَذَرِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى هَذِهِ الرَّغْبَةِ. وَهِيَ اللَّطِيفَةُ الْمُدْرِكَةُ الْمُرِيدَةُ الَّتِي قَدْ تَطَهَّرَتْ قَبْلَ وُصُولِهَا إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ. وَهِيَ الْهِمَّةُ النَّقِيَّةُ. وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا كَمَالُ الطَّهَارَةِ لَبَقِيَتْ عَلَيْهَا بَقِيَّةٌ مِنْهَا تَمْنَعُهَا مِنْ وُصُولِهَا إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. .فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الرِّعَايَةِ: وَهِيَ مُرَاعَاةُ الْعِلْمِ وَحِفْظُهُ بِالْعَمَلِ. وَمُرَاعَاةُ الْعَمَلِ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِخْلَاصِ. وَحِفْظُهُ مِنَ الْمُفْسِدَاتِ. وَمُرَاعَاةُ الْحَالِ بِالْمُوَافَقَةِ. وَحِفْظُهُ بِقَطْعِ التَّفْرِيقِ. فَالرِّعَايَةُ صِيَانَةٌ وَحِفْظٌ. وَمَرَاتِبُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ ثَلَاثَةٌ: رِوَايَةٌ: وَهِيَ مُجَرَّدُ النَّقْلِ وَحَمْلِ الْمُرْوِيِّ. وَدِرَايَةٌ: وَهِيَ فَهْمُهُ وَتَعَقُّلُ مَعْنَاهُ. وَرِعَايَةٌ: وَهِيَ الْعَمَلُ بِمُوجِبِ مَا عَلِمَهُ وَمُقْتَضَاهُ. فَالنَّقَلَةُ هَمَّتْهُمُ الرِّوَايَةُ. وَالْعُلَمَاءُ هَمَّتْهُمُ الدِّرَايَةُ. وَالْعَارِفُونَ هَمَّتْهُمُ الرِّعَايَةُ. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ مَنْ لَمْ يَرْعَ مَا اخْتَارَهُ وَابْتَدَعَهُ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ حَقَّ رِعَايَتِهِ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}. {رَهْبَانِيَّةً} مَنْصُوبٌ بِـ {ابْتَدَعُوهَا} عَلَى الِاشْتِغَالِ. إِمَّا بِنَفْسِ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ- عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ- وَإِمَّا بِمُقَدَّرٍ مَحْذُوفٍ مُفَسَّرٌ بِهَذَا الْمَذْكُورِ- عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ- أَيْ: وَابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً. وَلَيْسَ مَنْصُوبًا بِوُقُوعِ الْجَعْلِ عَلَيْهِ. فَالْوُقُوفُ التَّامُّ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَرَحْمَةٌ} ثُمَّ يَبْتَدِئُ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} أَيْ: لَمْ نَشْرَعْهَا لَهُمْ. بَلْ هُمُ ابْتَدَعُوهَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ نَكْتُبْهَا عَلَيْهِمْ. وَفِي نَصْبِ قَوْلِهِ: {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ لَمْ نَكْتُبْهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ. وَهَذَا فَاسِدٌ. فَإِنَّهُ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ. كَيْفَ وَقَدْ أَخْبَرَ: أَنَّهُمْ هُمُ ابْتَدَعُوهَا. فَهِيَ مُبْتَدَعَةٌ غَيْرُ مَكْتُوبَةٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَفْعُولَ لِأَجْلِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِفِعْلِ الْفَاعِلِ الْمَذْكُورِ مَعَهُ. فَيَتَّحِدُ السَّبَبُ وَالْغَايَةُ. نَحْوُ: قُمْتُ إِكْرَامًا. فَالْقَائِمُ هُوَ الْمُكْرِمُ. وَفِعْلُ الْفَاعِلِ الْمُعَلَّلِ هَاهُنَا هُوَ الْكِتَابَةُ وَ{ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} فِعْلُهُمْ، لَا فِعْلُ اللَّهِ. فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِفِعْلِ اللَّهِ. لِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ. وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ مَفْعُولِ {كَتَبْنَاهَا}؛ أَيْ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ. وَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ إِذْ لَيْسَ ابْتِغَاءُ رِضْوَانِ اللَّهِ عَيْنَ الرَّهْبَانِيَّةِ، فَتَكُونُ بَدَلَ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ. وَلَا بَعْضَهَا، فَتَكُونُ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ. وَلَا أَحَدُهُمَا مُشْتَمِلٌ عَلَى الْآخَرِ. فَتَكُونُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ. وَلَيْسَ بَدَلَ غَلَطٍ. فَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ نَصْبَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ. أَيْ لَمْ يَفْعَلُوهَا وَلَمْ يَبْتَدِعُوهَا إِلَّا لِطَلَبِ رِضْوَانِ اللَّهِ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ {ابْتَدَعُوهَا} ثُمَّ ذَكَرَ الْحَامِلَ لَهُمْ وَالْبَاعِثَ عَلَى ابْتِدَاعِ هَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةِ، وَأَنَّهُ هُوَ طَلَبُ الرِّضْوَانِ. ثُمَّ ذَمَّهُمْ بِتَرْكِ رِعَايَتِهَا؛ إِذْ مَنِ الْتَزَمَ لِلَّهِ شَيْئًا لَمْ يُلْزِمْهُ اللَّهُ إِيَّاهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرَبِ لَزِمَهُ رِعَايَتَهُ وَإِتْمَامَهُ. حَتَّى أَلْزَمَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ شَرَعَ فِي طَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ حُكْمُهُ بِإِتْمَامِهَا. وَجَعَلُوا الْتِزَامَهَا بِالشُّرُوعِ كَالْتِزَامِهَا بِالنَّذْرِ. كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ إِجْمَاعٌ- أَوْ كَالْإِجْمَاعِ- فِي أَحَدِ النُّسُكَيْنِ. قَالُوا: وَالِالْتِزَامُ بِالشُّرُوعِ أَقْوَى مِنَ الِالْتِزَامِ بِالْقَوْلِ. فَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ وَفَاءً، يَجِبُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ مَا الْتَزَمَهُ بِالْفِعْلِ إِتْمَامًا. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِقْصَاءِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَالْقَصْدُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَمَّ مَنْ لَمْ يَرْعَ قُرْبَةً ابْتَدَعَهَا لِلَّهِ تَعَالَى حَقَّ رِعَايَتِهَا؛ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَرْعَ قُرْبَةً شَرَعَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَأَذِنَ بِهَا وَحَثَّ عَلَيْهَا؟! .فَصْلٌ: [دَرَجَاتُ الرِّعَايَةِ]: .[الدَّرَجَةُ الْأُولَى: رِعَايَةُ الْأَعْمَالِ]: الرِّعَايَةُ صَوْنٌ بِالْعِنَايَةِ. وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الرِّعَايَةِ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: رِعَايَةُ الْأَعْمَالِ. وَالثَّانِيَةُ: رِعَايَةُ الْأَحْوَالِ. وَالثَّالِثَةُ: رِعَايَةُ الْأَوْقَاتِ. فَأَمَّا رِعَايَةُ الْأَعْمَالِ فَتَوْفِيرُهَا بِتَحْقِيرِهَا. وَالْقِيَامُ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَيْهَا. وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى مَجْرَى الْعِلْمِ، لَا عَلَى التَّزَيُّنِ بِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ: صَوْنٌ بِالْعِنَايَةِ أَيْ حِفْظٌ بِالِاعْتِنَاءِ، وَالْقِيَامِ بِحَقِّ الشَّيْءِ الَّذِي يَرْعَاهُ. وَمِنْهُ رَاعِي الْغَنَمِ. وَقَوْلُهُ: أَمَّا رِعَايَةُ الْأَعْمَالِ: فَتَوْفِيرُهَا بِتَحْقِيرِهَا. فَالتَّوْفِيرُ: سَلَامَةٌ مِنْ طَرَفَيِ التَّفْرِيطِ بِالنَّقْصِ، وَالْإِفْرَاطِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فِي حُدُودِهَا وَصِفَاتِهَا وَشُرُوطِهَا وَأَوْقَاتِهَا. وَأَمَّا تَحْقِيرُهَا فَاسْتِصْغَارُهَا فِي عَيْنِهِ. وَاسْتِقْلَالُهَا، وَأَنَّ مَا يَلِيقُ بِعَظْمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَحُقُوقِ عُبُودِيَّتِهِ أَمْرٌ آخَرُ. وَأَنَّهُ لَمْ يُوَفِّهِ حَقَّهُ. وَأَنَّهُ لَا يَرْضَى لِرَبِّهِ بِعَمَلِهِ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهُ. وَقَدْ قِيلَ: عَلَامَةُ رِضَا اللَّهِ عَنِ الْإِنْسَانِ عَنْكَ إِعْرَاضُكَ عَنْ نَفْسِكَ. وَعَلَامَةُ قَبُولِ عَمَلِكَ عَلَامَةُ قَبُولِ الْعَمَلِ احْتِقَارُهُ وَاسْتِقْلَالُهُ، وَصِغَرُهُ فِي قَلْبِكَ. حَتَّى إِنَّ الْعَارِفَ لَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عُقَيْبَ طَاعَتِهِ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ ثَلَاثًا. وَأَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ عُقَيْبَ الْحَجِّ. وَمَدَحَهُمْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ عُقَيْبَ قِيَامِ اللَّيْلِ. وَشَرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقَيْبَ الطُّهُورِ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ. فَمَنْ شَهِدَ وَاجِبَ رَبِّهِ وَمِقْدَارَ عَمَلِهِ، وَعَيْبَ نَفْسِهِ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ اسْتِغْفَارِ رَبِّهِ مِنْهُ، وَاحْتِقَارِهِ إِيَّاهُ وَاسْتِصْغَارِهِ. وَأَمَّا الْقِيَامُ بِهَا فَهُوَ تَوْفِيَتُهَا حَقَّهَا، وَجَعْلُهَا قَائِمَةً كَالشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، وَالشَّجَرَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى سَاقِهَا الَّتِي لَيْسَتْ بِسَاقِطَةٍ. وَقَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَيْهَا؛ أَيْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهَا وَيُعَدِّدَهَا وَيَذْكُرَهَا مَخَافَةَ الْعَجَبِ وَالْمِنَّةِ بِهَا. فَيَسْقُطُ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ. وَيَحْبَطُ عَمَلُهُ. وَقَوْلُهُ: وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى مَجْرَى الْعِلْمِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ الْمَأْخُوذِ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ، إِخْلَاصًا لِلَّهِ. وَإِرَادَةً لِوَجْهِهِ. وَطَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ، لَا عَلَى وَجْهِ التَّزَيُّنِ بِهَا عِنْدَ النَّاسِ. .[الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ رِعَايَةُ الْأَحْوَالِ]: أَيْ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ فِي اجْتِهَادِهِ أَنَّهُ رَاءَى النَّاسَ. فَلَا يَطْغَى بِهِ. وَلَا يَسْكُنُ إِلَيْهِ. وَلَا يَعْتَدُّ بِهِ. وَأَمَّا عَدُّهُ الْيَقِينَ تَشَبُّعًا. فَالتَّشَبُّعُ: افْتِخَارُ الْإِنْسَانِ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ». وَعَدُّ الْيَقِينِ تَشَبُّعًا: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْيَقِينِ لَمْ يَكُنْ بِهِ، وَلَا مِنْهُ، وَلَا اسْتَحَقَّهُ بَعِوَضٍ. وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلُ اللَّهِ وَعَطَاؤُهُ، وَوَدِيعَتُهُ عِنْدَهُ، وَمُجَرَّدُ مِنَّتِهِ عَلَيْهِ. فَهُوَ خُلْعَةٌ خَلَعَهَا سَيِّدُهُ عَلَيْهِ. وَالْعَبْدُ وَخُلْعَتُهُ مِلْكُهُ وَلَهُ. فَمَا لِلْعَبْدِ فِي الْيَقِينِ مَدْخَلٌ. وَإِنَّمَا هُوَ مُتَشَبِّعٌ بِمَا هُوَ مِلْكٌ لِلَّهِ وَفَضْلُهُ وَمِنَّتُهُ عَلَى عَبْدِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّهِمَ يَقِينَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْيَقِينُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي، بَلْ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْهُ هُوَ كَالْعَارِيَّةِ لَا الْمِلْكِ الْمُسْتَقِرِّ، فَهُوَ مُتَشَبِّعٌ بِزَعْمِ نَفْسِهِ بِأَنَّ الْيَقِينَ مِلْكُهُ وَلَهُ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالْيَقِينِ، بَلْ بِسَائِرِ الْأَحْوَالِ. فَالصَّادِقُ يَعُدُّ صِدْقَهُ تَشَبُّعًا. وَكَذَا الْمُخْلِصُ يَعُدُّ إِخْلَاصَهُ. وَكَذَا الْعَالَمُ. لِاتِّهَامِهِ لِصِدْقِهِ وَإِخْلَاصِهِ وَعِلْمِهِ. وَأَنَّهُ لَمْ تَرْسَخْ قَدَمُهُ فِي ذَلِكَ. وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ فِيهِ مِلْكَةً. فَهُوَ كَالْمُتَشَبِّعِ بِهِ. وَلَمَّا كَانَ الْيَقِينُ رُوحَ الْأَعْمَالِ وَعَمُودَهَا، وَذُرْوَةَ سِنَامِهَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ. تَنْبِيهًا عَلَى مَا دُونَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ فِي حُصُولِ الْيَقِينِ. فَإِذَا حَصَلَ فَلَيْسَ حُصُولُهُ بِهِ وَلَا مِنْهُ، وَلَا لَهُ فِيهِ شَيْءٌ، فَهُوَ يَذُمُّ نَفْسَهُ فِي عَدَمِ حُصُولِهِ. وَلَا يَحْمَدُهَا عِنْدَ حُصُولِهِ. وَأَمَّا عَدُّ الْحَالِ دَعْوَى؛ أَيْ دَعْوَى كَاذِبَةً، اتِّهَامًا لِنَفْسِهِ، وَتَطْهِيرًا لَهَا مِنْ رُعُونَةِ الدَّعْوَى، وَتَخْلِيصًا لِلْقَلْبِ مِنْ نَصِيبِ الشَّيْطَانِ. فَإِنَّ الدَّعْوَى مِنْ نَصِيبِ الشَّيْطَانِ. وَكَذَلِكَ الْقَلْبُ السَّاكِنُ إِلَى الدَّعْوَى مَأْوَى الشَّيْطَانِ. أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنَ الدَّعْوَى وَمِنَ الشَّيْطَانِ.
|